عناق في النار
كنت في زيارة إلى بلا د الهند , وبطبيعتي لا أحب الإقامة بالمدن الكبيرة المزدحمة , فأنا أتنقل بين الأرياف والقرى النائية .. وعند زيارتي لإحدى القرى النائية جدا والتي لا يوجد بها شيء من الحضارة تإن في التخلف والجهل وكأنها من العصور الوسطى .. وكنت أتنقل على **** " أجلكم الله " وكان معي صديقي العزيز الذي يبدو وكأنه ظلي لا يفارقني أبدا , فهو دائما يعتبرني قدوة له ويقلدني ويستشيرني في كل أموره ( ليس هذا موضوعي ) , فلفت نظري تجمع كل أهل القرية , الكبير منهم والصغير , نساء ورجالا وشيوخا وترافقهم بعض حيواناتهم ومنهم من يدق على الطبول ومن ينفخ الأبواق , وقاموا بإشعال النيران , وأنا وصديقي ننظر إليهم وخيالي يتذكر الرحالة الكبير ( ابن بطوطة ) وقصته " عناق في النار " وكأنني في ذلك العصر, ولم يقطع حبال تفكيري سوى صوت صديقي يسالني عن هذا الموقف الغريب , فأخبرته بأن أحد الهندوس قد مات وأنهم سوف يحرقونه مع زوجته إذا كانت وفية وتريد أن تحرز الشرف لأهلها ..
وعند ما حل المساء , عدنا كعادتنا إلى مقر إقامتنا , فألح علي صديقي أن أروي له حكاية الرحالة (ابن بطوطة ) " عناق في النار " وكما ذكرت فإنني لا أستطيع أن أرد طلبا لصديق روحي فبدأت أسرد علية القصة كما ذكرت
********
يقول الشيخ عبد الله في كتابه تحفة النظار في غرائب الأمصار , المعروف بـ (( رحلة ابن بطوطة ))
بتاريخ الغرة من شهر المحرم عام أربعة وثلاثين وسبعمائة وصلنا إلى بلاد السند( الهند ) وفي إحدى قصصه في تلك البلاد ذكر لنا :
رأيت الناس يهرعون من عساكرنا , ومعهم بعض من أصحابنا , فسألته ما الخبر ؟ فأخبروني أن كافرا من الهنود مات , وأججت النار لحرقه , و إمرأته تحرق نفسها معه ¸ولما أحترقا جاء أصحابي وأخبروا أنها عانقت زوجها الميت حتى أحترقت معه .
وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من الهنود متزينة راكبة , والناس يتبعونها من مسلم وكافر ,والأطبال والأبواق بين يديها ومعها البراهمة , وهم من كبراء الهنود . وإذا كان ذلك ببلاد السلطان استأذنوا السلطان في إحراقها فيؤذن لهم فيحرقونها . ثم أتفق أني كنت بمدينة أكثر سكانها كفارا تعرف بأبجري , وأميرها مسلم من سامرة السند , وعلى مقربة منها الكفار والعصاة , فقطعوا الطريق يوماَ , وخرج الأمير المسلم لقتالهم , وخرجت معه رعية من المسلمين والكفار , ووقع بينهم قتال شديد, مات فيه من الكفار سبعة نفر , وكان لثلاثة منهم ثلاث زوجات , فأتفقن على إحراق أنفسهن .
ولمعلوماتك فإن إحراق المرأة بعد موت زوجها عندهم أمر مندوب إليه غير واجب , لكن من أحرقت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفا بذلك , ونسبوا إلى الوفاء , ومن لم تحرق نفسها , لبست خشن الثياب , وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها , ولكنها لا تكره على إحراق نفسها .
ولما تعاهدت النسوة الثلاث اللائي ذكرناهن على إحراق أنفسهن , أقمن قبل ذلك ثلاثة أيام في غناء وطرب وأكل وشرب , كأنهن يودعن الدنيا , ويأتي إليهن النساء من كل جهة , وفي صبيحة اليوم الرابع أتيتكل واحدة منهن فرس فركبته , وهي متزينة متعطرة وفي يمناها جوزة نارجيل تلعب بها , وفي يسراها مرآة تنظر فيها وجهها, والبراهمة يحفون بها , وأقاربها معها , وبين يديها الأطبال والأبواق والأنفار . وكل إنسان من الكفار يقول لها : أبلغي السلام إلى أبي أو أخي أو أمي أو أصحابي , وهي تقول لهم : نعم يوصل , وتضحك إليهم. وركبت مع أصحابي لأرى كيفية صنعهن في الإحتراق . فسرنا معهن نحو ثلاثة أميال , وأنتهينا إلى موضع مظلم كثير المياه والأشجار متكاثف الظلال , وبين أشجاره أربع قباب , في كل قبة صنم من الحجارة. وبين القباب صهريج ماء قد تكاثفت عليه الظلال , وتزاحمت الأشجار فلا تتخللها الشمس . فكان ذلك الموضع بقعة من بقع جهنم , أعاذنا الله وإياكم منها .
ولما وصلن إلى تلك القباب ,نزلن إلى الصهريج , و أنغمسن فيه , وجردن ما عليهن من ثياب وحلي , فتصدقن به , وأتيت كل واحدة منهن بثوب قطن غير خشن غير مخيط , فربط بعضه على رأسها وبعضه على وسطها وكتفيها . والنيران قد أضرمت بالقرب من ذلك الصهريج , في موضع منخفض , وصب عليها روغن كنجت "كنجد " وهو زيت الجلجلان فزاد في إشتعالها . وهناك نحو خمسة عشر رجلا بأيديهم حزم من الحطب الرقيق , ومعهم نحو خمسة عشر رجلا آخرين بأيديهم خشب كبار , وأهل الأطبال والأبواق وقوف ينتظرون مجيء المرأة , وقد حجبت النار بملحفة , ويمسكها الرجال بأيديهم لئلا يدهشها النظر إليها. فرأيت إحداهن لما وصلت إلى تلك الملحفة , نزعتها من أيدي الرجال بعنف وقالت لهم : مارا ميتر ساني ازاطش " آنش " من ميدانم أو اطاش است رهكاني مارا , وهي تضحك , ومعنى هذا الكلام ( أبالنار تخوفونني ؟ أنا أعلم أنها نار محرقة ) ثم جمعت يديها على رأسها خدمة للنار , ورمت بنفسها فيها . وعند ذلك ضربت الأطبال والأنفار والأبواق , ورمى الرجال ما بأيديهم من الحطب عليها , وجعل الآخرون تلك الخشب من فوقها لئلا تتحرك , وارتفعت الأصوات وكثر الضجيج .
ولما رأيت ذلك كدت أسقط عن فرسي لولا أصحابي تداركوني بالماء فغسلوا وجهي وانصرفت . وكذلك يفعل أهل الهند أيضا في الغرق , يغرق كثير منهم أنفسهم في نهر الكنك , وهو الذي إليه يحجون . وفيه يرمى برماد هؤلاء المحرقين . وهم يقولون : إنه من الجنة . وإذا أتى أحدهم ليغرق نفسه يقول لمن حضره " لا تظنوا أني أغرق نفسي لأجل شيء من أمور الدنيا أو لقلة مال , إنما قصدي التقرب إلى كساي " وكساي " بضم الكاف والسين المهمل " اسم الله عز وجل بلسانهم , ثم يغرق نفسه . فإذا مات أخرجوه وأحرقوه ورموا برماده في نهر الكنك .
أنتهى كلام ( ابن بطوطة )
وأخيرا , الحمد لله على نعمة الإسلام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
_________________